كلمة سيد الشهداء السيد عباس الموسوي في مؤتمر الانتفاضة في فلسطين 24-12-1991
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
في البداية أتوجه إلى أهلنا وشعبنا في فلسطين بالتحية والسلام. كما أتوجه إلى كل الأخوة المؤتمرين الأعزاء خصوصا الذين وفدوا إلينا من الخارج، من خارج لبنان. نتوجه إليهم بالشكر على إهتمامهم بهذا المؤتمر كما أخص بالشكر الأخوة الأعزاء القييمين على هذا المؤتمر.
أيها الأخوة السلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته. يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز "بسم الله الرحمن الرحيم، إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" صدق الله العلي العظيم.
سأحاول أن أستلهم كلمتي من نفس العنوان الذي عقد المؤتمر من أجله، وهو الانتفاضة. الانتفاضة طبعا بمعناها الواسع إنطلاقا من رمية الحجر وانتهاءاً بالبندقية. الانتفاضة بهذا المعنى هي الخيار الوحيد لشعوب العالم الاسلامي والعربي. وهي الخيار الوحيد بالحد الأدنى للشعوب التي تقع في إطار المشروع الإسرائيلي من النيل إلى الفرات. هذا الخيار الوحيد والحتمي أدركه شعبنا في فلسطين. ولذلك إمتلكت الانتفاضة القدرة على الإستمرار كل هذه الفترة الطويلة من الزمن لأنها أدركت هذا الخيار. إذ البديل لهذا الخيار هو إقتلاع إنساننا في فلسطين من أرضه. وعندما يخير المرء بين خيار الجهاد والمواجهة والانتفاضة وبين خيار الاقتلاع من الأرض لن يختار إلى خيار الجهاد والمواجهة.
كذلك هذا العدو الاسرائيلي الذي يهدد عشرات الملايين الذين يسكنون مناطق واسعة من هذه المنطقة من مصر إلى الأردن إلى سوريا إلى العراق إلى لبنان مضافاً إلى ما سوف يتهدد المناطق الأخرى في العالم الإسلامي. لكن بالحد الأدنى هذه المناطق تحت التهديد المباشر فإما أن تقتلع هذه المناطق يقتلع منها إنسانها بالكامل، وإما أن تختار خيار الإنتفاضة والمواجهة. طبعاً هذا الخيار قد لا يكون بحاجة إلى الكثير من التعمق لإكتشافه. لكن مع ذلك سأحاول مستلهما من تجارب الماضي والحاضر حتى نستطيع أن نحدد هذا الخيار بشكل أدق وأعمق. كيف ولدت إسرائيل في فلسطين؟ ما هي ظروف نشأة وولادة إسرائيل على أرض فلسطين؟
هجرة يهودية قبل سنة 1948، تدفق اليهود على أرض فلسطين بهجرة واسعة. هذه ركيزة أولى. ثانيا دعم بريطاني واسع، مضافا إلى انهزام وتهافت وسقوط عربي. مضافا إلى الخدعة البريطانية. إن الإنسان العربي والإنسان الفلسطيني قَبِل أن يكون المفاوض والوسيط بينه وبين اليهود نفس بريطانيا. هجرة يهودية، دعم بريطاني، سقوط على مستوى الدول العربية والزعامات العربية. مضافا إلى القبول ببريطانيا كوسيط، هذه ظروف ولادة دولة إسرائيل على أرض فلسطين. الآن عندما نسأل عن الظروف الحالية ما هي؟
سنجد نفس هذه الظروف، مع إضافات كلها لصالح العدو الإسرائيلي. الهجرة اليهودية قائمة على قدم وساق. يتدفق اليهود من كل مكان إلى المنطقة. هذه واحدة. دعم أمريكي كامل للكيان الصهيوني. سقوط عربي خصوصا بعد الضربة التي وجهت للعراق. ثم قبول أمريكا وسيطا. يضاف إلى ذلك ظروف كلها في صالح العدو الاسرائيلي. مثلا اليهود في بداية تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين كانوا بالحد الأدنى أكثر ضعفا مما هم عليه اليوم. كانوا يعيشون حالة من التشتت. لا نتصور أن اليهود في تلك المرحلة كانوا متوحدين. كانوا متآزرين. من يرجع إلى تلك الحقبة من الزمن يجد أن هناك نزاعات حقيقية كانت بين اليهود. هم بالعموم كانوا متفقين خصوصا على المسائل الأساسية والجوهرية. لكن كانت تأكلهم الكثير من الخلافات والنزاعات. أما اليوم كل اليهود لا فرق بين اللذين يسكنون فلسطين، ولا بين الذين يسكون في الاتحاد السوفياتي، او أمريكا، ولا أي بلد آخر. تجد اليهود في كل أنحاء العالم شددوا التماسك. متماسكون جدا. وطبعا هذا عامل قوة وظرف بالنسبة لبني اسرائيل وبالنسبة إلى اليهود. مضافا إلى ذلك أن التوزع لليهود في كل أنحاء العالم ساهم مساهمة كبيرة في سيطرتهم على مراكز القرار العالمي. أو بالحد الأدنى على التأثير في مراكز القرار. ولا يخفى علينا تأثير اللوبي اليهودي على القرار الأمريكي في الولايات المتحدة الأميركية. والدليل أيضا على ذلك كل التقدم الذي ترونه اليوم بالنسبة للعدو الصهيوني.
يعني مثلا عندما تؤثر الصهيونية ومعها أمريكا حتى على قرار المؤتمر الإسلامي في دكار. ففقرة الجهاد المسلح تحذف. ثم المذهب البروتستنتي في ألمانيا يأخذ قرارا بضرورة حذف كل الفقرات الموجودة في الانجيل والتي تطال اليهود بالشتم واللعن. أيضا برأت الصهيونية من العنصرية. كل هذه أمثلة بارزة أن اليهود باتوا في موقع التسلط والتأثير الكبير. فاذا استطاعت إسرائيل أن تنتزع وجودها وتولد بقوة في فلسطين بتلك الظروف التي كانت موجودة في حقبة 48 فكيف الحال بالنسبة إلى المرحلة الحاضرة. يعني إذا ولدت إسرائيل الصغرى في تلك الحقبة من الزمن ينبغي أن نترقب ولادة إسرائيل الكبرى في هذه الحقبة. هذه مسالة إذا درست على ضوء الظروف والملابسات القائمة هذه النتيجة طبيعية وحتمية. من هنا نتوجه لتقييم الواقع في هذه المرحلة التي نحن فيها المرحلة التي نحن فيها. صحيح أنها مرحلة كما قلت لكم صعبة وقد تنذر بولادة خطرة جدا. بولادة دولة اسرائيل الكبرى بالحد الأدنى. وولادة دولة إسرائيل العظمى. التي تستطيع أن تقهر الشعوب وتفرض سلطانها على الشعوب وعلى الأمم وعلى الدول.
لكن المسألة التي يجب أن نتوقف عندها، لأنها تشكل الأمل الحقيقي. هو الفارق على مستوى الإنسان. ونحن نعرف أن القاعدة الإلهية، التي على أساسها تتم عملية التغيير هي بنفس الإنسان "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". "بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بئس شديد". الإنسان وإرادة الإنسان وإرادة التغيير على مستوى الإنسان هي الأساس. وفعلا نجد الفارق واضحا على مستوى هذه المسالة. يعني مثلا عندما ولدت إسرائيل الصغرى عام 1948 كانت هناك إنتفاضات. وبعضها كان مشرفا لكن هذه الانتفاضات لم تكن معتمدة على الجذور الأساسية. لم تستمد قوتها من تاريخ الإسلام مثلاً. لم تستمد قوتها من الرسالة والمبادئ الاسلامية. كانت مجرد ردات فعل على حالات العدوان المستمرة من قبل العدو الصهيوني أو من قبل اليهود. يعني كان يعتدى عليهم فيردون العدوان. ولذلك سرعان ما انهارت هذه الانتفاضات أمام الضغوطات الحقيقية من قبل اليهود، يعني مثلا بمجرد أن هول الاسرائيليون واليهود بمجزرة دير ياسين، فر الناس. هاموا على وجوههم. خرجوا من فلسطين. أما اليوم ونحن نملك رصيد ثورة الإمام الخميني رضوان الله عليه. رصيد هذه الثورة بكل صلابتها وعنادها وقوتها. لذلك من الطبيعي أن لا ننهار مهما كانت المصائب ومهما كانت الامتحانات والشدائد. صنعت بنا الكثير من المجازر في هذه المرحلة هل تسامحنا بجهادنا.
كم هي المجازر والامتحانات التي مرت بها الانتفاضة في فلسطين مع ذلك استمرت. كم هي الامتحانات الصعبة التي مرت بها المقاومة الاسلامية والوطنية في لبنان. مع ذلك استمرت حتى إننا في بعض حالاتنا كان يجزر بنا كما حصل في صبرا وشاتيلا. ارتكبت افظع المجازر ولكن بالمقابل كانت تواجه بعناد المجاهدين وصبر المجاهدين وعنف المواجهة. هذا يعبر عن مستوى إنساننا في هذه المرحلة. إذا الفارق الأساسي هي بالإنسان ومن هنا نعتبر أن أملنا كبير بشعوب العالم الإسلامي وإنساننا في هذه المرحلة. وبالتالي مهما كانت الوجوه الكالحة التي تقوى علينا هنا وهناك. مهما كانت الوجوه الضعيفة التي تبرز على مستوى حياة هذه الأمة هنا أو هناك. هذه لن تشكل علامة سقوط بالنسبة إلى أمتنا. يعني بعبارة أوضح النظام في لبنان عندما توجه لتوقيع إتفاقية السابع عشر من أيار. الدولة كانت متوجهة للسقوط والاستسلام الكامل. لكن ماذا كان يفعل الشعب آنذاك وماذا كانت نتيجة فعل ذلك الشعب. الشعب المسلم في لبنان المسلمون والوطنيون الأحرار قاموا بجهاد كبير غير كل المعادلات. إذا وجود جهة رسمية تفاوض باسم هؤلاء الناس هذا لا يعني سقوط انساننا.
الآن الانتفاضة في فلسطين هناك من يدعون تمثيلها. يفاوضون تارة في مدريد وتارة في واشنطن ويعبرون بكل تعابير المذلة. لكن هل سقط الإنسان في فلسطين. إنسان الانتفاضة سقط؟ هل سقط الحجر من يدي أطفالنا في فلسطين؟ لم يسقط. إذا كل الهزيمة على المستوى الرسمي لا تعبر عن هزيمة على مستوى إنساننا. على مستوى مجاهدنا ومقاومنا. هذه المسألة هي الأساس. هي التي يجب أن نسلط الضوء عليها في هذه المرحلة على كل المستويات. يعني الآن عندما نسمع وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية وإلى ما هنالك. نجدها لا تركز إلا على جانب واحد هو جانب الإستسلام والذلة في هذه الأمة. هذا يعبر بأننا قد سقطنا بعد حرب الخليج الثانية. هذا يعبر أن الأمة فقدت إرادتها. كل العبارات التي تهزم الإنسان. بينما لا تركز على الجانب المضيء من حياة أمتنا وإنتفاضات وثورات شعوبنا. يجب أن نسلط الضوء على إنساننا، على شعوبنا المقهورة المستضعفة، على جهادها على ثورتها. الدولة اللبنانية رسميا في المفاوضات، لكن الشعب المسلم في لبنان الآن هو في جبل صافي، في البقاع الغربي، في المواقع الأمامية، يقاتل ويجاهد ضد العدو الإسرائيلي. جهاد الشعوب لا يجوز أن يعمى عليه، لأنه هو الذي يحدد الخيار الحقيقي بالنسبة لهذه الأمة. هو الذي يرسم حاضرها ويرسم مستقبلها.
ولذلك الذي أؤكده في هذا المؤتمر هو ضرورة أن نتوجه إلى هذا الإنسان، إلى إنساننا في العالم الإسلامي والعالم العربي والفلسطيني. نتوجه إليه بالتحية كما نتوجه إليه بالخدمة لنضع كل إمكاناتنا وكل قدراتنا وطاقاتنا بين يديه. نخدمه بالمقاومة نخدمه بالإعلان نخدمه بالحركة السياسية نخدمه على كل المستويات. من هنا يأتي دور مثل هذا المؤتمر وأمثاله. كم كان عظيما مؤتمر طهران. كان صوتا كبيرا عبرت من خلاله الشعوب المسلمة عن إرادتها وهويتها وخيارها وتاريخها. أيضا هذا المؤتمر يجب أن يكون بنفس الفاعلية وبنفس التعبير. عندما ننطلق من خلال هذه المؤتمرات لتحديد خيارنا، والانطلاق من هذا الخيار باتجاه الهدف، ساعتئذ لن تستطيع أمريكا مع كل جبروتها وإسرائيل مع كل غطرستها، لن تستطيع أن تخطو خطوة واحدة على مستوى المنطقة. عندما يستيقظ كل شعب مصر، يستيقظ الشعب الأردني، والشعب السوري، والشعب اللبناني، والشعب في عمق العدو الاسرائيلي في داخل فلسطين، كيف ستتحرك إسرائيل آنذاك في مشروعها. إذا أرادت أن تتوجه في الداخل ستجد إنتفاضة عارمة من شعبنا المسلم في الداخل. وإذا ارادت أن تتوجه إلى مصر ولو بالتطبيع ستجد شعبا صلبا بإرادته وقوته وتمنعه. كذلك الحال بالنسبة إلى كل الدول. هم أتوا إلى لبنان واحتلوا جزءا واسعا من أرض لبنان. لكن هل استطاعوا أن يشلوا حركة الجهاد والمقاومة في لبنان. طردوا أذلاء. هكذا إذا ما انتشر الوعي على مستوى إنساننا، وانتشرت روح المقاومة، وروح المواجهة لهذا العدو سنحد من طموحه تمهيدا لازالته من الوجود بإذن الله .
أسال الله أخيرا أن يوفقنا جميعا لما فيه خير فلسطين وخير الإنتفاضة المباركة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.