كلمة الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله إثر وقوع الطائرة الآثيوبية 26-1-2010
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد الله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا خاتم النبيينّ أبي القاسم محمد (ص) وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الأخيار المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، قال الله تعالى في كتابه المجيد :" الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون أؤلئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأؤلئك هم المهتدون". إنّني في البداية أتوجه إلى العائلات الكريمة والشريفة، لضحايا الكارثة الجوية التي وقعت بالأمس لأتحدث إليهم وأخاطبهم، ولأعتذر إليهم في البداية لأنّ من واجبي أن أكون بينهم وفي بيوتهم وبالقرب منهم، ولكنّ الظروف المعروفة تمنعني من ذلك، وعلى هذا الأساس وإن كنت أتحدث عبر الشاشة ولكنني سأتكلم كما لو كنت معهم في بيوتهم.
إنّني أقدّم لكم العزاء وأعبر لكم عن مشاركتنا، أنا وإخواني وأخواتني في حزب الله، عن مشاركتنا العميقة في أحزانكم وآلامكم، لأنّ حزنكم هو حزننا ولأنّ ألمكم هو ألمنا، ونحن نستطيع أن ندرك بقوة وبإحاطة، المشاعر الحقيقية التي تسيطر الآن على قلوبكم وعقولكم وأرواحكم ومشاعركم وعواطفكم، لأننا خلال كل السنوات الماضية ذقنا طعم ولوعة وألم فقدان الأحبة والأعزة.
أيّها الأهل الكرام، أنتم بالأمس فقدتم أحباء وأعزاء وأقارب، بالنسبة إليكم يمثلون الكثير الكثير في البعد الإنساني والعاطفي والأخلاقي والعائلي والوطني، وشعرتم بهذا المصاب، نحن كما كل الناس نقف إلى جانبكم نعزيكم ونسأل الله تعالى أن يلهمكم الصبر وأن يعينكم وأن يعطيكم القدرة على التحمل وعلى تجاوز هذا المصاب، وأن يجعل ثوابكم وأجركم عظيمين عنده لصبركم وتحملكم.
أيّها الأهل الكرام أيتها العائلات الشريفة، لقد علمنا الله سبحانه وتعالى وإيّاكم كيف نواجه المصائب، المصائب في هذه الدنيا هي أمر طبيعي والدنيا أساسا قائمة على الإمتحان والإختبار والإبتلاء وما يجري فيها من أحداث ومصائب، كيف نواجه المصيبة، المصائب مختلفة ولكن من أعظم المصائب هي مصيبة فَقْد الحبيب والعزيز سواء كان أبا أو إبنا أو أخا أو ابنة أو أختا أو زوجا أو زوجة أو صديقا أو قريبا، الله تعالى علّمنا وقال لنا :" الذين إذا أصابتهم مصيبة"، كما هو حالكم وحالنا الآن، ونحن شركاء جميعا في المصيبة. بالأمس كلنا تأثرنا لما شهدنا وشاهدنا ورأينا وسمعنا، الذين إذا أصابتهم مصيبة كيف يواجهون هذه المصيبة : "قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون"، يستعيدون إيمانهم ويقينهم وعقيدتهم ومعرفتهم وإقرارهم بالحقائق الوجودية :"إنّا لله"، نحن ملكه لأنّه هو الذي خلقنا وهو الذي أوجدنا وهو الذي أحيانا وهو الذي رزقنا، فنحن ملكه تتصرف فينا إرادته وتتحكم فينا مشيئته، الحياة والموت بيده، وآجالنا بيده ، هو الذي يقرر متى يستردنا من هذه الدنيا، إذا أولا نحن ملكه وبالتالي هؤلاء الأحبة والأعزة ليسوا ملكا لنا، هؤلاء ملك لله سبحانه وتعالى وهو الذي يتصرف بملكه بالحكمة التي يراها.
والعنوان الآخر :" وإنّا إليه راجعون" وهذا إيمان آخر أيضا، أننا لسنا مخلدين في هذه الدنيا، أنبياء الله ورسل الله وملائكة الله وأولياء الله وأحباء الله، كلهم يغادرون هذه الدنيا، و"كلُّ مَنْ عليها فَان ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام"، إذا نحن لسنا من المخلّدين في هذه الدنيا بل هذه الدنيا مَبْنِيّة على الفناء والزوال والنهاية وأنا جميعا عائدون إليه وراجعون إليه لنلقاه في تلك الدار ولنقف بين يديه فيحاسبنا ويجزينا ويختار لنا برحمته أو بِعَدْلِه مصائر أمورنا هناك. ونؤمن أنّ الآجال بيده، لأنّ الأجل هو الأجل، والموت طالب حثيث لا يفوته المقيم ولا يعجزه الهارب. إذا استحضرنا هذا الإيمان وهذه العقيدة فإنّ الله سبحانه وتعالى ينزّل علينا رحمته وينزّل على قلوبنا الطمأنينة والسكينة ويعيننا ويساعدنا على تحمل المصيبة وعلى تجاوزها لاحقا، وهذا وعده في الآية الكريمة :"أؤلئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأؤلئك هم المهتدون"، تشملنا رحمته وعنايته، يتلطف بنا لأننا في مقابل المصيبة لا ننهزم ولا نكفر ولا نيأس ولا نحبط، وإنما نقول له إننا ملك لك ومشيئتك الحاكمة والمتصرفة "وإنّا إليك راجعون" ومسلمون لأمرك ومشيئتك فارحمنا وأعنّا ووفقنا لتحمل هذا المصاب ولتجاوز هذا المصاب.
أيها الأهل الكرام وأيها الناس الطيبون جميعا، إنّ الذين فقدناهم بالأمس هم عبارة ـ في الأعم الأغلب ـ عن أعزاء كانوا يعملون ويجهدون ويكدون لسنوات طويلة من أجل حياة أفضل وعيش كريم لعائلاتهم ولآهاليهم وأيضا لوطنهم ولشعبهم، وهم وإن كانوا بأغلبهم من المغتربين الذين عاشوا خارج الوطن لسنوات طويلة إلاّ أنهم ما نسوا وطنهم وأهلهم وخصوصا في الأيام الصعبة والظروف القاسية. ما دام هؤلاء من هذه النوعية ومن هذا الصنف فَهُمْ عند الله سبحانه وتعالى وأقول هذا أيضا لأشد على قلوب وأيدي أهل الضحايا لأقول لهم، إنّ هذا الصنف من الناس له عند الله تعالى مكانة، فرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول : "الكادُّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله"، إن ّهؤلاء الذين يكدّون على عيالهم ويعملون في الليل أو النهار سواء في الوطن أو يهاجرون ويبتعدون ويعيشون أجواء الغربة والوحدة والبُعد عن الأحبة من أجل أن يأمّنوا لعائلاتهم ولأهلهم حياة كريمة وحياة عزيزة وعيشا هنيئا رضيّا، هم بحسب هذا الحديث الشريف كالمجاهدين في سبيل الله ويحشرون أيضا بهذا المعنى مع المجاهدين في سبيل الله إنشاء الله.
بالأمس يا أهلنا الكرام، شارككم الناس جميعا هذه الأحزان والآلام وكانوا جميعا يشعرون معكم ويؤكدون أنهم أهل المصيبة، لقد شاهدنا هذا في الوجوه والعيون وفي الدمعات والتعابير، شاهدناه عند أهلنا وشعبنا في لبنان من أقصاه إلى أقصاه، ونحن معكم نقدر هذه العاطفة الشعبية النبيلة والشريفة عاليا ونعتبرها من أهم عناصر القوة في بلدنا التي نخطو بها نحن المستقبل. كما أننا نقدر عاليا حضور الدولة برؤوسائها ووزرائها وقياداتها العسكرية والأمنية وأجهزتها المدنية المختلفة والمُتَابَعة الجادة لهذه الكارثة وأسبابها ونتائجها، وكذلك كل أنواع المساعدة التي قدّمت للبنان سواء من قوات اليونيفيل أو الدول الأخرى.
إنّنا أمام هذه المصيبة نود أن ندعو إلى ما يلي :
أولا إلى مواصلة الجهد الحثيث في البحث عن أجساد الضحايا ولو استلزم العمل وقتا أطول، ولا يجوز أن ننكفيء بسرعة، لأنّ عودة الأجساد إلى العائلات هو مطلب إنساني وأخلاقي وعاطفي وشرعي وهو أمر يخفف من حزن وآلام ومآسي هذه العائلات.
ثانيا، مواصلة التحقيق بالجديّة اللازمة والسرعة المطلوبة للإنتهاء من التفاسير المستعجلة والتحليلات المتناقضة، لأنّ معرفة الحقيقة (أمر) مهم جدا أولا للعائلات وهذا يساعدها على المستوى النفسي لأنّ أي عائلة لا تقبل ولا ترضى أن تبقى في حالة من الضبابية والشك والريبة حول الحادثة وأسبابها وكيف فقدت عزيزها. وأيضا على المستوى الوطني من أجل تحديد نقاط الخلل وعناصر الضعف ان كان هناك من نقاط ضعف وعناصر خلل, والعمل على معالجتها لتفادي أي كوارث جوية مشابهة في المستقبل لا سمح الله .
ثالثا : مطالبة الحكومة اللبنانية وهي التي تنعقد الليلة في جلسة أيضا ومن الطبيعي أن تبحث هذا الوضع المستجد, مطالبة الحكومة للعمل سريعا على تأمين جهوزية لبنانية وطنية حقيقية بشريا ولوجستيا وفنيا لمواجهة هكذا كوارث والتدخل السريع والفعال لإنقاذ من يمكن إنقاذه وإعطاء هذا الأمر أولوية على أي مشاريع ونفقات أخرى, الأمر يستحق ان يعطى هذه الأولوية لان فيه إنقاذا لأرواح قد تتعرض لخطر الموت إن تأخرنا عن مد يد العون والمساعدة لها, وليس من الطبيعي في أي بلد ان نبقى ننتظر مساعدة الآخرين, نحن نملك من الرجال ومن القدرة على المستوى الوطني ومن الإمكانات والمقدرات ما يؤهلنا بان يكون لدينا جهوزية وطنية قادرة على أن تكون أسرع تدخلا وافعل تدخلا يمكن ان يستنقذ من يمكن استنقاذه في مواجهة كوارث طبيعية من هذا النوع .
رابعا : ندعو لان تكون هذه الحادثة الأليمة مناسبة لإصغاء المسؤولين جميعا إلى مطالب المغتربين وخصوصا في إفريقيا لان لديهم مطالبا محقة ولديهم مشكلات كبيرة تواجه سفرهم وإقامتهم وذهابهم وإيابهم. لقد سمعنا بعض هذه الشكاوى بالأمس في لحظة المصيبة, البعض اعتبر أن هذه مناسبة لإيصال صوته, لا يجوز ان ننتظر مصائب من هذا النوع لنصغي إلى مواطنينا الذين يعيشون في بلاد الاغتراب وخصوصا في إفريقيا ولنعالج المشكلات التي يواجهونها وخصوصا إذا كانت ترتبط بأمنهم وسلامتهم وحياتهم, وهؤلاء جميعهم لهم فضل كبير على صمود لبنان وعلى الحياة الكريمة في لبنان وعلى أعمار لبنان وعلى مواجهة التحديات الاقتصادية والمعيشية القاسية في لبنان, كثير من هؤلاء هاجروا ليبقى أهلهم في هذا البلد وبالتالي هم من أهم عناصر التثبيت الوطني والسكاني والديمغرافي وان كانوا يدفعون الثمن من حياتهم الشخصية, هذا الأمر إذن يستحق هذا المستوى الكبير من العناية.
إنني مجددا أتوجه الى العائلات الكريمة بالتعزية وبالتعبير عن مواساة وعن مشاعر الحزن والألم, وأسال الله سبحانه وتعالى ان يعينهم وان يوفقهم للصبر وان يعطيهم قوة التحمل وان يعظّم أجرهم وثوابهم لان الصابرين أجرهم عظيم عند الله سبحانه وتعالى, وان يتغمد هؤلاء، أرواح هذه الضحايا جميعا، برحمته وان يسعهم بواسع مغفرته وان يمن عليهم بالجنان الواسعة وبالرحمة الكاملة انه سميع الدعاء قريب مجيب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.