كلمة الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في تأبين العلامة الراحل الشيخ عبد الناصر جبري 27-12-2016
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا خاتم النبيين أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
السادة العلماء، الإخوة والأخوات، الحفل الكريم السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.
أنا وأخواني عاجزون عن أن نؤدي حق سماحة الشيخ علينا، فكيف في حالة الاختصار، فسنكون أعجز.
في البداية أتقدم بأحر التعازي إلى عائلته الكريمة والشريفة وإلى جميع إخوانه ومحبيه وأصدقائه ورفاق دربه وإليكم في هذا اللقاء المبارك إن شاء الله.
معرفتي بسماحة الشيخ عبد الناصر تعود إلى عام 1985 وبالتالي بعض الشهادة التي أقدمها بين أيديكم هي شهادة عن حسّ وليس نقلاً عن نقل، وبعض ما أقوله أنا أو قاله إخواني قبل قليل إنما هو من باب الشكر والتقدير لجهوده وتضحياته وعطاءاته رضوان الله عليه، وأيضا لتثبيت وترسيخ وتركيز هذا النوع من العلماء المجاهدين المضحين كقدوة وأسوة نتعلم منهم ونسير في دربهم، نواصل طريقهم حتى نقضي نحبنا ولن نبدل تبديلا، كما أن سمحته لم يبدل على الإطلاق.
كلنا يعرف سماحة الشيخ عبدالناصر في تديّنه وعلمه وفضله وأخلاقه الحسنة وصفاته الحميدة وهدوئه واتزانه وتواضعه ومحبته الآخرين وصبره وصدقه وعمله الدؤوب وجهاده المتواصل. كلنا يعرفه بالعالم المجاهد المهاجر الذي لا يكل ولا يمل ولا يضجر ولا يتعب ولا ييأس ولا حدود لحركته ونشاطه لا في الزمان ولا في المكان.
طبعاً عندما نريد أن نقارب هذه الشخصية العلمية الجهادية يمكن أن نقاربها من زوايا متعددة وأبعاد متنوعة وخصوصاً أن سماحة الشيخ كان متنوعاً في اهتماماته وعمله.
في البعد الشخصي والسلوكي والأخلاقي والديني والتقوائي هذا بعد، في البعد التبليغي والدعوي، في البعد السياسي والحركي عندما تتحدث عن جبهة العمل الإسلامي وحركة الأمة ونشاطه فيهما ودوره المؤسس، البعد الإعلامي والمؤسسات الإعلامية، البعد الجهادي والمقاوم، البعد الوحدوي والتقريبي. لكن نتيجة ضيق الوقت اسمحوا لي أن أركز على بعض العناوين في شخصيته وأنتقل في كل عنوان إلى حالنا الحاضر بالاختصار الشديد إن شاء الله.
في العنوان التقريبي والوحدوي إيمانه بالتقريب بين المسلمين، بالأخوّة، بأخوّة المسلمين لبعضهم البعض بأننا إخوة في الله وفي الإسلام، إيمانه بوجوب التقريب بين أتباع المذاهب الإسلامية. هذا على مستوى الإيمان والقناعة والفكر، وعمله، لأنه لا يكفي الإيمان، لا بد مع الإيمان من العمل الصالح، من يؤمن بفكرة يجب أن يعمل بهذه الفكرة وقدم سماحة الشيخ عبد الناصر رحمه الله نموذجاً مميزاً خصوصاً هو وأخوانه، في الإطار الذي كلنا نعتز به، وهو تجمع العلماء المسلمين في لبنان. هنا نحن أمام نموذج رائع واستثنائي ومميز: مجموعة من علماء السنة ومجموعة من علماء الشيعة يعملون سوياً، يجلسون سوياً، يتواصلون بشكل دائم، يتعاونون في مختلف المجالات، يتلاقون بشكل دوري، يناقشون المسائل، يتفقون، ينسقون، يشكلون وفوداً مشتركة وواحدة في المناسبات المختلفة، يتخذون المواقف الموحدة إزاء القضايا المختلفة في الأمة.
ولكن أهم ما في هذه التجربة هي الصدق في العلاقة، مشاعر الأخوة، هذا الود، هذا الحب، هذه المشاعر، العاطفة الخاصة. ما كنا نشاهده قبل قليل، هذا ليس مجاملات، فقدان الشيخ عبد الناصر أحزننا جميعاً وأحزن جميع إخوانه وأبكى عيوننا وشعرنا بعظيم الخسارة. هذه التجربة استثنائية ومميزة لأنها تفيد أنه يمكن في مكان ما في العالم الإسلامي بعد مئات السنين من الجفاء والتباعد هنا وهناك سوى حالات مميزة واستثنائية أن ينشأ إطار يجمع هذا العدد الكبير من علماء الشيعة والسنة في لبنان ويتواصلون ويتعاونون ويتآخون ويتحابون، ليس علاقات سياسية ومجاملات وما شاكل، وإنما علاقة في العمق.
هذا النموذج سماحة الشيخ عبد الناصر كان مؤسساً فيه، كان فاعلاً وحاضراً ومصراً عليه. حتى في بعض المراحل التي مرّ فيها البلد في أزمات وكانت تأتي أفكار من هنا أو هناك أن مشروع التجمع أو مرحلة التجمع استنفذت أغراضها، كان الشيخ عبد الناصر من المصرّين بقوة على مواصلة هذه التجربة وهذا النموذج وهذا الطريق.
وفي نفس الاتجاه هو أكمل إلى الأطر المشابهة، اتحاد علماء بلاد الشام الذي صار أوسع، يجمع أيضاً علماء من مختلف المناطق والمذاهب الإسلامية، إلى المجمع العالمي للتقريب. في أي إطار، في أي مؤسسة، في أي صيغة توحيدية تقريبية تجمع وتوحد وتآخي كان الشيخ عبد الناصر رحمة الله عليه سباقاً وفعالاً ومقداماً وحاضراً. ونحن نأمل لهذا النوع من التجارب أن ينتقل إلى بقية البلدان العربية والإسلامية.
نحن الآن في هذا الزمن أحوج ما نكون إلى الشيخ عبد الناصر جبري، إلى أمثاله، إلى فكره، إلى نهجه، إلى روحه، إلى صدقه، إلى تآخيه، لأن عالمنا الإسلامي اليوم يواجه ظاهرة شديدة الخطورة وهي ظاهرة التطرف المنفلت من كل قيود، سواء في بعض الأوساط السنيّة أو في بعض الأوساط الشيعية.
عندما نرقب ظاهرة التكفير وتيارات التكفير نجد بأنه حتى قبل العام 2000 وقبل التسعينيات كان موجوداً ولكن في بعض الأطر، في بعض البلدان، في بعض الساحات. لم يعبّر هذا التيار التكفيري عن نفسه كما هو الحال الآن. التكفيريون سواء في المواقع الفكرية أو المواقع الإعلامية أو المواقع السياسية أو المواقع الميدانية اليوم يعبرون عن موقفهم بلا حدود وبلا ضوابط وأخذوا الأمور إلى أقصى وأبعد مدى، وهذا خطير جداً. في معركة التكفير اليوم لا يكتفى بالتكفير وإنما يتطور إلى القتل والمجازر والمذابح والسبي وقطع الرؤوس وشق الصدور والصلب وما شاكل.هذا أخطر ما يمكن أن تصل إليه الأمة الآن نعيشه.
وأيضاً في بعض الأوساط الشيعية للأسف الشديد اتجاهات معينة، وهي التي يسميها سماحة الإمام الخامنئي بالتشيّع اللندني أو التشيّع البريطاني التي أيضا تأخذ منحى التكفير والتخوين والإساءة لكل المقدسات ولكل الرموز، وللمناسبة ليس فقط لمقدسات ورموز إخواننا اهل السنة بل أيضا لمقدسات ورموز الشيعة من علماء ومرجعيات ورموز علمائية وأخلاقية رفيعة عالية.
اليوم عندما تجد أن كل الإمكانات توفر لهذين الاتجاهين، اتجاهات التكفير والغلو والتطرف والسباب والشتم والاتهام والتخوين والذبح والقتل، توفر لهم كل وسائل الإعلام. قنوات المقاومة يتم إسقاطها من عرب سات ومن نيل سات ومن الأقمار الصناعية الأوروبية، أما قنوات الفتنة مثل وصال وصفا وفدك وما شاكل تشرّع لها كل الأبواب في العالم.
إذا ما يجري أيها الإخوة أيها السادة والسيدات والسادة العلماء هو ليس من سبيل الصدفة وليس عفوياً وإنما هناك عمل دول وأجهزة مخابرات ومراكز دراسات تعمل في الليل وفي النهار، اكتشفت أن الصحوة الإسلامية وأن الأمة الإسلامية وأن الشعوب المسلمة استيقظت وقامت وبدأت تتخذ مواقف واضحة من الهيمنة الأمريكية والاستكبارية على بلاد المسلمين وعلى منطقتنا، وبات لها موقف واضح وحاسم إنبنى أيضا بمعنويات عالية على ضوء انتصارات المقاومة تجاه إسرائيل، فأدركت أن هذه الأمة يجب أن يُضرب بعضها ببعض ولا سبيل لمواجهة هذا القيام الشعبي الهادر في بلاد العرب والبلاد العربية خصوصاً والبلاد الإسلامية بشكل عام الذي شهدناه قبل سنوات إلا بحرف كل هذه المسارات إلى اتجاهات الفتنة. ومَن أَولى بأن يخدم هذا المشروع الاستكباري الصهيوني في تفتيت وضرب وتقسيم ونقل المعركة من ساحتها الحقيقية والصحيحة إلى ساحات أخرى مثل تيارات التكفير والغلو.
اليوم نحن أكثر من أي زمن مضى يجب أن نتحمل المسؤولية كما تحملها المرحوم الشيخ عبد الناصر، يجب أن نعزل هؤلاء، أن نحاصر هؤلاء، أن نقف في وجه هؤلاء، أن نسكت هؤلاء من جهة، ومن جهة أخرى يجب أن نعمل من أجل المزيد من التلاقي والتقارب والتعاون والتآخي والتوحد والتكامل لأن غرض هؤلاء التكفيريين والمتطرفين وأسيادهم من الأمريكيين والصهاينة هو أن نتمزق وأن نبتعد عن بعضنا البعض وأن نذهب كل في وادٍ.
إن أصرارنا على التلاقي وعلى اللقاء وعلى العمل الواحد وعلى الأطر الجامعة العلمائية والسياسية والمقاومة هو أفضل جواب وأفضل تحدٍّ بل هو أفضل إنجاز من خلاله نفهم فشل المشروع الآخر.
العنوان الثاني عنوان المقاومة، موقف سماحة الشيخ عبد الناصر، لا أعيد، أنا أؤيد وأؤكد على كل ما قاله الإخوة قبلي، وأنا أتابع الاحتفال منذ اللحظة الأولى، موقفه الحاسم من المقاومة. من الأيام الأولى هو لم يأخذ موقفاً من المقاومة، هو جزء من المقاومة، وهو واحد من علمائها ومجاهديها ومفكريها والعاملين فيها في المجال السياسي والإعلامي والشعبي والاجتماعي والميداني، ولكن في كل المراحل الصعبة عندما احتاجت المقاومة إلى دفاع عن مشروعها وعن فكرتها وعن منطقها وعن شرعيتها كان الشيخ عبد الناصر كبقية إخوانه في تجمع العلماء المسلمين، في جبهة العمل الإسلامي، في الأطر الإسلامية المختلفة، صوتاً عالياً وقوياً وشجاعاً خصوصاً بعد أحداث 2005، 2006 في لبنان وما تلاها من أحداث إلى آخر لحظة في حياته، كانت المقاومة في لبنان وفلسطين ثابتة مركزية من ثوابته في الإيمان وفي العمل وفي التضحية. هذه المقاومة اليوم أيضا هي مستهدفة بدولها وشعوبها ومجتمعاتها وجيوشها وحركاتها الجهادية.
أحد أخطر عناوين الحرب القائمة في المنطقة منذ سنوات هو الحرب على المقاومة ومحور المقاومة، وهذه هي الحقيقة التي تتكشف يوماً بعد يوم من خلال اعترافات القادة الأمريكيين والسياسيين والدبلوماسيين والجنرالات والمسؤولين الأمنيين والوثائق الدامغة والشواهد والتسجيلات. ما يجري في منطقتنا هدفه أصبح واضحاً وجلياً.
اليوم هناك من يعمل على تدمير الجيوش العربية لمصلحة إسرائيل وعلى إسقاط بقية الأنظمة العربية المقاومة من أجل إسرائيل ليعود جيش إسرائيل الأقوى بعد أن هزمته المقاومة في لبنان وفلسطين، وبعد أن أذلّته المقاومة في لبنان وفي فلسطين وبعد أن أصبح هذا الجيش جيشاً خاوياً في معنوياته، في ثقته في نفسه، في ثقة ضباطه بجنوده وثقة جنوده بضباطه. المطلوب أن تُدمر جيوش المنطقة ليبقى جيش واحد قوي يستعيد المعنويات ويستعيد الآفاق ويستعيد الثقة وهو الجيش الإسرائيلي.
اليوم تُعزل وتُحاصر وتشوّه سمعة حركات المقاومة في لبنان وفلسطين وكل المنطقة، تشوّه سمعة كل المؤيدين والداعمين للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، الداعمين بحق ويُقتلون ويحاربون في كل أنحاء العالم من سورية إلى العراق إلى البحرين إلى اليمن إلى بقية بلدان العالم إلى نيجيريا التي يتظاهر أهلها بمئات الآلاف في يوم القدس العالمي من أجل فلسطين ومن أجل القدس.
المقاومة المستهدفة اليوم هي أيضاً الدفاع عنها مسؤولية الجميع كما كان يفعل الشيخ عبد الناصر، وهذا الاستهداف مستمر على كل الجبهات. لا تتصوروا أن إسرائيل هي تتفرج والعالم مشغولة ببعضها والساحات مستنزفة وهي تتفرج. هي تلاحق كل عقل يمكن أن يكون عقلاً في المقاومة أو لديه إمكانية تطوير مجال ما في المقاومة، كما فعلت من خلال اغتيال الشهيد محمد الزواري في تونس وكما فعلت في السابق بالشهيد القائد حسان اللقيس وكما فعلت بالعلماء النوويين الإيرانيين والعلماء النوويين العراقيين. إسرائيل هذه لا تستطيع أن تتحمل في مجتمعاتنا وفي شعوب منطقتنا لا عقول ولا إرادات ولا جيوش ولا حركات مقاومة ولا علماء ولا فكر يمكن أن يتجمع وأن يتوحد وأن يتناسق في مواجهة هذا المشروع الصهيوني وهذا المشروع الاستكباري.
اليوم هذه أيضا مسؤولية ويجب أن يُدافع عن المقاومة وعن محور المقاومة وعن حركات المقاومة وعن مجتمعات المقاومة. الوعي من قبل سماحة الشيخ رحمه الله الموقف الشجاع والصريح في الدفاع عن المقاومة هو علامة بارزة في الدنيا وفي الآخرة للشيخ عبد الناصر. نحن نثق بشعوبنا وأمتنا، لدينا ثقة كبيرة جداً، مهما كانت الآلام والمآسي. اسمحوا لي أن أقول لكم اليوم في ذكرى هذا الشيخ المجاهد المؤمن والتقي، مهما كانت آلام هذه الأمة لن تتخلى عن فلسطين. حسابات الإسرائيليين هي حسابات خائبة وخاطئة في فلسطين، طالما كانت حساباتهم أن الشعب الفلسطيني سيتخلى عن قضيته وعن مقدساته الإسلامية والمسيحية وسوف يقبل بالفتات الذي يقدمه له الصهاينة، ولكن الشعب الفلسطيني كان دائما يفاجئ الإسرائيليين. فاجأهم عامي 83 و84 وفاجأهم بانتفاضة الأقصى وفاجأهم بالمقاومة المسلحة، كان قبلها طبعاً قاتلهم طويلاً منذ النكبة والنكسة، وأيضا فاجأهم بانتفاضة القدس الأخيرة ويفاجئهم الشعب الفلسطيني بتأييده العالي جداً في أعلى نسب التأييد لخيار المقاومة.
أيضاً في لبنان كل حساباتهم عام 1982 خابت وضاعت وهم يعترفون بأنهم أخطأوا الحساب. وأيضا الآن هم يحسبون أن المنطقة التي تواجه هذه الحرب وهذه الفتنة وهذه المصائب وهذه المآسي، سوف تخرج هذه المنطقة وشعوبها وقادتها وعلماءها مجروحين مستنزفين، لن يكون في بداية ولا في جزء اهتماماتهم شيء اسمه إسرائيل ومواجهة المشروع الصهيوني. هم واهمون، أنا أقول لكم: محور المقاومة سيخرج من هذه الحرب الكونية عليه في كل البلدان منتصراً وأصلب عوداً وأقوى وقوداً إن شاء الله.
وشعوب هذه المنطقة وهذه التجربة المؤلمة سوف تخرج منها حركات المقاومة لتعود الأولوية في المحور وفي الأنظمة وفي الجيوش وفي الشعوب وفي الأحزاب وفي القوى السياسية وفي الفكر وفي الاعلام وفي المشاعر، لتعود فلسطين هي الأولوية ومواجهة المشروع الصهيوني هو الأولوية وتحرير القدس هو الأولوية.
إذا كان هؤلاء يراهنون أن الحرب الكونية ستدفن تحت تراب هذه الأرض وهذه المنطقة كل مقاوم ومجاهد وشريف هم مشتبهون ومخطئون.
هذا خلاف السنن الإلهية وخلاف سنن التاريخ وخلاف "إنّ لله رجالاً إذا أرادوا أراد".
وفي هذه المنطقة كل المقاومين مصرون على الصمود وعلى الثبات كما كان يحب هذا الاسم الشيخ عبد الناصر وعلى مواصلة المواجهة حتى الانتصار النهائي ولن يسلّموا هذه المنطقة، لا فلسطين ولا لبنان ولا سورية ولا العراق ولا أي بلد، لن يسلموه لا للهيمنة الأمريكية ولا للصهاينة.
اليوم مثلاً في الوقت الذي يضغط فيه العدو الإسرائيلي في كل مكان نجد ثبات الأسرى في السجون الإسرائيلية الذين يضربون عن الطعام والشراب حتى حافة الهاوية أو الذين يُقتلون ظلما في السجون كما حصل بالأمس مع الشيخ أسعد الولي من الشخصيات الوطنية والمقاوِمة في الجولان السوري المحتل وخرج في تشييعه هذا الحشد الكبير من أهل الجولان ليعبّروا عن هويتهم وعن موقفهم وعن التزامهم وعن رفضهم لهذا الكيان والخضوع لهذا الكيان.
اليوم تستسلم بعض الأنظمة، تسمح حكومة البحرين لأسوأ منظمة صهيونية أن تأتي إلى البحرين، "يقولون إسرائيلية مش إسرائيلية" هويتهم أمريكية، لكن هم منظمة صهيونية بالمعنى الأوسع لأسوأ منظمة صهيونية، أن تأتي إلى البحرين وتستقبل في البحرين وتتحدث وسائل الاعلام الإسرائيلي بنشوة، تحدثت وسائل الاعلام الإسرائيلية عن أمرين:
أولاً أن هؤلاء هذه المنظمة الصهيونية بلباسها التقليدي وإلى جانبها عرب "بالدشاديش وبالحطة والعكال" واللباس العربي كانوا يرقصون سويا، والمشهد الآخر أن هذه المنظمة أنشدت في شوارع البحرين نشيد الهيكل سيُبنى على أنقاض المسجد.
إذا كانت حكومة البحرين دخلت في مسار التطبيع منذ زمن فإن شعب البحرين وعلماء البحرين، المجلودة ظهورهم الذين القي بهم في السجون الذين قتل رجالهم ونساؤهم، المعذبون وأيضا المخذولون من العالم العربي والإسلامي لم ينسوا فلسطين ولم ينسوا قضية فلسطين ولم ينسوا أن الصراع الأساسي هو مع العدو الإسرائيلي، ولذلك في الوقت الذي يسكت العالم كله عن تطبيع البحرين ويضطر فقط بعض الحركات الفلسطينية أن تندد، يخرج الشعب البحريني وعلماء البحرين لينددوا ويرفضوا، وهذا يعني أنه أياً تكن الآلام عندنا لا يمكن أن تنسينا فلسطين ولا قضية فلسطين.
في اليمن حصار وجوع وقصف وقتل، وآلاف الأطفال يموتون من الجوع والمرض، ولكن الشعب اليمني يهتف لفلسطين ويتظاهر لفلسطين في صنعاء تحت القصف. ما يعني هاذا؟ يعني أن الخير قوي في هذه الأمة، ولذلك أقول في ختام هذا العنوان، أنا أقول للصهاينة: لا تراهنوا، المستقبل في هذه المنطقة هو للمقاومة ولمحور المقاومة ولمشروع المقاومة. هذا ليس كلاماً بالخطابات، هذا كلام يترجم بالدم وبالصمود وبالثبات وبالتضحيات الجسام في أكثر من بلد وفي أكثر من ميدان.
والعنوان الأخير، البصيرة والثبات عند سماحة الشيخ عبد الناصر الجبري، بصيرة الشيخ، فهمه الصحيح للأحداث والمواقف والمشاريع والأهداف والخطط. منذ سنوات ومنطقتنا وشعوبنا في فتنة يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه. وعندما يختلط الحق بالباطل وتتزين الشعارات والعناوين البرّاقة وتختلف الرايات وتحتد الاصطفافات. كل واحد منا يكون أمام المسؤولية الأصعب في حياته، من أجل دنياه ومن أجل آخرته.
على الإنسان أن يحكم عقله ودينه. أن لا تأخذه الأهواء والعصبيات والشعارات والخطابات الحماسية ولا الدعايات ولا الوشايات ولا الاندفاعات الشعبية هنا وهناك، أن يكون لنفسه كما فعل الشيخ عبد الناصر موقفاً للدنيا وللآخرة يستطيع أن يقدم الإجابة عنه يوم القيامة لله سبحانه وتعالى.
الشيخ عبد الناصر، في هذه المحنة في السنوات الأخيرة، كان صاحب البصيرة والفهم والرؤية الثاقبة، وأيضاً هو لم يدخل في أي حيرة في المواقف. من اللحظة الأولى كان لديه وضوح شديد وفهم واضح جداً حول ما يجري، ولم يكتفِ بالفهم والبصيرة والإيمان، بل دائماً هو رجل الإيمان والعمل. كان أيضاً في موقع المواجهة في هذه الحرب وفي هذه الفتنة وفي هذا التحدي. طبعاً، بما يمثله من شخصية علمائية وأكاديمية وسياسية ودعوية، من خلال خطابه وموقفه وتعبيره عن الموقف، ومؤسساته، ومن أهم ما ذكره الإخوان قبلي هو هجرته إلى العالم، لأن الكثيرين منع عليهم أن يسافروا، والكثيرين منع عليهم أن يتكلموا أو أن يحضروا في مؤتمرات، الشيخ عبد الناصر كان يسافر من بلد إلى بلد ومن مؤتمر إلى مؤتمر ليعوّض هذا النقص، ليملأه بحنجرته وبصوته الشجاع الهادر وبمنطقه القوي والمتين لأن المسألة ليست مسألة حماسة من هنا أو من هناك.
اليوم أيضاً هذه المسؤولية بعد رحيله تكبر ونحن جميعاً معنيون في أن نوضح المواقف للناس جميعاً من حولنا وأن نصرّ على اتخاذ الطريق وعلى أن نواجه هذه الفتنة بمنطق الجمع والتوحيد والتآخي والتسامح كما يجري الآن في العديد من الساحات. عندنا مثلاً في بعض البلدان مثل سوريا أو غيرها عندما في مدينة معينة أو بلدة معينة يحمل بعض المقاتلين أو الجماعات المسلحة السلاح لسنوات يقاتلون ويقتلون الجنود ويجرحون وثم ينتهي الأمر بتسوية هنا ومسامحة هناك وإيجاد معالجة هنا، نعم، نحن يجب أن نسعى في هذه المنطقة أن نعمل بمنطق التسامح وبمنطق التسويات الداخلية وبمنطق القفز فوق الآلام وفوق الجراح. هم يريدون لكل مياديننا أن توغل في الدم وأن توغل في الأحقاد وأن تزداد الخسائر النفسية والمعنوية والعسكرية والبشرية في أمتنا.
نحن في الوقت الذي يجب أن نكون حاسمين صارمين في مواقع الدفاع، يجب أن تبقى الأيدي ممدودة والصدور مفتوحة وأن تبقى الروح الحاكمة هي روح التسامح والعقل الحاكم، هو عقل الانفتاح والحوار والسعي لمعالجة كل مشكلة مهما كبرت حتى ولو تمادت إلى المواجهات الدامية، أن نعالجها بالحوار وبالحل السياسي وبالكلمة الطيبة وبالكلمة الحسنة، لأن هذا هو المستقبل الذي يجب أن نصنعه لأولادنا وأحفادنا وهكذا نحبط كل المؤامرات.
أيها الإخوة والأخوات: نحن نشعر جميعاً بالخسارة الكبيرة، برحيل سماحة الأخ، الحبيب، العزيز، الكريم، المجاهد، الشيخ عبد الناصر جبري، ولكننا نسلم بقضاء الله تعالى ومشيئته، ونسأله أن يعوّض بعائلته الكريمة، وخصوصاً المشايخ الكرام من أبنائه، وبكم أنتم، بالسادة والأخوة والأخوات، بالعلماء الوحدويين المجاهدين الثابتين لأن هذه المرحلة، أنتم إخوة وأصدقاء الشيخ عبد الناصر جبري وأبناؤه أنتم ضمانتها، وأنتم عمادها، وأنتم مستقبلها. تغمده الله تعالى برحمته كما كان يجمعنا في حياته، هذا المشهد اليوم، عندما سينظر إليه التكفيريون، هذا مشهدكم، العمائم، العلماء من المذاهب الإسلامية المختلفة، من الاتجاهات السياسية المختلفة على المستوى الإسلامي وعلى المستوى الوطني، عندما ينظر إليكم التكفيريون أو الغلاة المتطرفون أو الصهاينة أو الأميركيون يدركون جيداً أن الشيخ عبد الناصر بحياته كان يواجههم، وبوفاته يجمع هؤلاء الصالحين المؤمنين ليقولو للعالم إن فتنتكم وإن حربكم وإن مؤامراتكم وإن مخططاتكم لن تفرقنا ولن تمزقنا، ستزداد وحدتنا بكل هؤلاء الأعزاء الذين ثبتوا حتى اللحظة الأخيرة، وقضوا نحبهم في هذا الطريق في الهجرة إلى الله.
نحن أيضاً يا شيخنا الغالي، يا شيخ عبد الناصر سنواصل هذا الدرب، هذا عهدنا لك، لكل الأعزاء ، للدكتور الشيخ فتحي يكن، لسماحة الشيخ سعيد شعبان، لسماحة الشيخ فيصل مولوي، لهؤلاء الأعزاء الذين عملنا سوياً في لبنان من أجل هذا النموذج وهذا التقارب وهذا التآخي.
عهدنا لكم جميعاً، لكل العلماء الذين مضوا، لكل الشهداء الذين قضوا، أن نواصل درب الوحدة والتآخي والتقارب، ودرب الجهاد والمقاومة حتى تكون مشيئة الله بمشيئة الله كما شاء الله كلمة الله هي العليا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.